مع إعلان نتائج امتحان الثانوية العامة الأسبوع الماضي، حيث تقدم نحو 210 آلاف طالب وطالبة ونجح منهم حوالي 119 ألفا، تبدأ واحدة من أكثر المراحل حيرة وإثارة للجدل في حياة الطلبة وأسرهم: أي التخصصات ندرس؟ وأي المهن سنمارس في المستقبل؟
في هذه اللحظة الفاصلة، تختلط الأحلام بالطموحات، وتتصادم الحقائق مع الصور النمطية، ويصبح القرار محملا بالآمال والتحديات في آن واحد.
الواقع أن ثقافتنا التعليمية والاجتماعية ما تزال تدفع بالكثير من الطلبة نحو مسارات محددة، وفي مقدمتها دراسة الطب، استنادا الى فرضية أنها المهنة الأرفع مكانة والأكثر أمانا ماليا. لكن الحقائق على الأرض تروي قصة مغايرة، إذ إن الأردن وأسواق العمل في دول الخليج، تعاني من فائض كبير في خريجي الطب، ما دفع الآلاف منهم إما إلى البطالة أو العمل في وظائف بأجور متواضعة، لا تتناسب مع سنوات الدراسة الطويلة وتكاليفها. هذه الحالة ليست سوى مثال واحد على فجوة أعمق بين ما ينتجه نظامنا التعليمي وما يحتاجه سوق العمل فعلا.
المشكلة لا تتوقف عند عدم التوازن في التخصصات، بل تتجاوزها إلى فجوة المهارات. فغالبية خريجي منظومة التعليم الأردنية يفتقرون إلى المهارات التي يطلبها سوق العمل اليوم، سواء كانت مهارات تقنية أو شخصية أو تحليلية. وفي عالم يتغير بسرعة مذهلة، تظهر وظائف جديدة وتختفي أخرى بين ليلة وضحاها. كثير من العاملين الحاليين في الأردن وخارجه يشغلون وظائف لم يدرسوها في الجامعة، لكنهم نجحوا فيها بفضل قدرتهم على التعلم المستمر والتأقلم مع الفرص المتاحة.
التجارب العالمية، خاصة في الدول المتقدمة اقتصاديا، تثبت أن التعليم المهني والتقني ليس خيارا ثانويا أو أقل شأنا، بل مسار رئيسي لإعداد الشباب لوظائف حقيقية، بمهارات مطلوبة وأجور جيدة. هذه الدول تستثمر في المعاهد التقنية والتدريب المهني بالجدية نفسها التي تستثمر بها في الجامعات، ما ينعكس على انخفاض معدلات البطالة وارتفاع إنتاجية الاقتصاد. أما في الأردن، فما يزال الإقبال على هذه المسارات محدودا للغاية، فيما يتركز معظم الطلبة في الجامعات، بغض النظر عن توفر فرص عمل لاحقة لهذه المهن.
كما أن ضعف شروط العمل في بعض القطاعات يثني الشباب والشابات عن الانضمام إليها، رغم حاجات السوق، ما يفاقم الفجوة بين العرض والطلب. يضاف إلى ذلك ضعف تأثير التوجيه والإرشاد المهني في المدارس والجامعات، في ظل سيطرة ثقافة اجتماعية تربط النجاح بالمكانة التي تمنحها بعض المهن، لا بمدى توافقها مع احتياجات السوق أو مهارات الأفراد أنفسهم.
في مواجهة هذه الحقائق، يصبح من الضروري أن يتعامل الطلبة وأسرهم مع اختيار التخصص كقرار استراتيجي، لا مجرد خطوة شكلية أو استجابة للضغوط الاجتماعية. هذا القرار يجب أن يستند إلى معلومات دقيقة عن اتجاهات سوق العمل، والوظائف التي ستظهر أو تتوسع في المستقبل، والمعرفة بالمهارات المطلوبة لهذه الوظائف.
ولعل القاعدة الذهبية التي يجب أن نضعها نصب أعيننا هي أن مهارة التعلم المستمر هي جواز المرور الأهم لأي مهنة، مهما كان مجالها. فالقدرة على اكتساب معارف جديدة، وتحديث المهارات، والتكيف مع التغيرات، هي ما يحدد النجاح على المدى البعيد، لا مجرد الشهادة الجامعية أو اسم التخصص.
إن الاستثمار في الذات، عبر تطوير المهارات الأساسية والفنية، والانفتاح على خيارات تعليمية متنوعة، هو الطريق الأضمن لمستقبل مهني ناجح. أما الاستسلام للصور النمطية والقوالب التقليدية، فهو وصفة مؤكدة لخوض سباق طويل نحو وظائف قليلة، يكتظ بها آلاف الخريجين الباحثين عن فرص عمل، وفرص التطور المهني فيها محدودة.( الغد)