اسواق جو – تُطلق مشاريع التحوّل الرقمي في البنوك حول العالم موجة جديدة من الذكاء الاصطناعي تتجاوز حدود الأتمتة التقليدية. ووفق تقرير McKinsey & Company (2024)، بدأ عصر Agentic AI، وهو ذكاءٌ اصطناعي يعمل كـ«وكيل مستقل» قادر على تنفيذ رحلة الامتثال ومكافحة الجرائم المالية من بدايتها إلى نهايتها، لا بوصفه أداة تحليل فحسب، بل موظفاً رقمياً متكاملاً. حيث أن هذا الذكاء لا يكتفي بقراءة البيانات، بل يجمع المستندات، ويتحقق من الهوية، ويتتبع الملكية الحقيقية للشركات، ويقيّم مستوى المخاطر، ويصدر توصيات جاهزة لاتخاذ القرار كما يفعل الموظف البشري، لكن بسرعة تكاد تُشبه البرق، وبصبرٍ لا يعرف التعب.
إذ أن الأرقام التي يكشف عنها التقرير تُشبه صفعة توقظ النظام المالي العالمي فعلى الرغم أن البنوك تنفق مليارات الدولارات سنوياً على الامتثال ومكافحة غسل الأموال، إلا أن الأنظمة التقليدية لا تكتشف سوى 2% فقط من التدفقات المالية غير المشروعة. أي أن 98% من الجرائم تمرّ متخفية عبر الشرايين المالية، لأن التعقيد يفوق قدرة المراجعة اليدوية، ولأن الورق لا يستطيع مجاراة السرعة التي تجري بها الأموال في العالم الرقمي. وهنا يهبط الذكاء الوكيلي إلى المشهد كعدسة مجهرية تلتقط التفاصيل، لا يرسل تنبيهاً فقط، بل يجري تحقيقاً استقصائياً ذاتياً يبدأ بالربط بين الحسابات المتناثرة، من ثم يقرأ الأنماط، و يشكّ في المفارقات، ويستشعر الخطر قبل أن يصبح قضية.
في الأردن، الذي يسعى لتعزيز مكانته كمركز مالي إقليمي، لا تبدو هذه التقنية مطلباً ثانويا أو «ديكوراً رقمياً»، بل ضرورة استراتيجية لحماية الاقتصاد وتعزيز ثقة المستثمرين. فالبنوك الأردنية تتعامل مع تحويلات ضخمة للمغتربين، ومحافظ إلكترونية تنمو بوتيرة متسارعة، وتمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وخدمات مصرفية إسلامية ذات حساسية عالية للامتثال. ومع توسّع هذه الأنشطة، تتوسّع الظلال التي قد تتسلل منها محاولات غسل الأموال وتمرير الأموال المشبوهة. ولذا فان الذكاء الوكيلي يمثّل هنا مظلة أمان متقدمة، تنقل القطاع من منطق ردّ الفعل إلى منطق استباق الخطر.
ولا يسعنا التأكيد بأن هذا التحوّل لا يبدأ بشراء برمجيات جديدة، بل بإعادة تصميم الرحلة كاملة، من عقلية التخزين الورقي إلى عقلية «المصدر الواحد للحقيقة»، حيث تتكامل فرق الامتثال والبيانات والذكاء الاصطناعي، ويتحوّل الموظف من منفّذ معاملات إلى «محلل مخاطر استراتيجي». آخذين بعين الإعتبار بأن الهدف ليس استبدال الإنسان، بل تحريره من الأعمال الروتينية التي تستهلك طاقته ووقته، ليترك للعقل الآلي مهمة الركض خلف التفاصيل، وللعقل البشري مهمة اتخاذ القرار وتقدير السياق.
ويمكن أن يبدأ المسار عبر إنشاء مختبر تنظيمي sandbox بالشراكة بين البنوك والبنك المركزي، لتجربة النماذج الذكية ضمن بيئة آمنة، وبناء سياسات مرنة تُشجع الابتكار دون المساس بالامتثال. ومع وجود بنية رقمية متقدمة مثل الدفع الفوري (CliQ) ومنصات الهوية الرقمية، يصبح الذكاء الوكيلي حلقة طبيعية في سلسلة التحوّل الاقتصادي. وهو فرصة ايضاً لكليات الأعمال للدخول من بوابة الذكاء الوكيلي وإجراء محاكات لعمليات الإدارة والبنوك لتخريج شباب قادر على استغلال التكنولوجيا وتطويعها لخدمة العملاء والاقتصاد الوطني.
وعندما تتبنى البنوك هذا النموذج، لا تتغير سرعة المعاملات فقط، بل تتغير الفلسفة ايضاً والتي تتلاشى عندها الأعمال الورقية المرهقة، والقرارات تصبح لحظية، والعميل ينال تجربة أكثر خفة وسلاسة. فالذكاء الوكيلي لا يحارب الجريمة فحسب، بل يبث الثقة في شرايين الاقتصاد.
ولذا فالبنوك التي ستكسب المستقبل ليست التي تمتلك التكنولوجيا فقط بل تلك التي تُعيد التفكير في نفسها من خلالها.