اسواق جو – فخورون بأنّ أفكار الابتكار لم تبقَ حبرًا على ورق، بل تحوّلت إلى خطوات عملية تُترجم رؤى التطوير إلى واقع ملموس، وتؤكد أنّ الأردن يدخل مرحلة جديدة من التفكير الاستراتيجي القائم على الإبداع والمبادرة. فما شهدناه خلال الأعوام الأخيرة يبرهن على أنّ الدولة باتت تنظر إلى الابتكار بوصفه ضرورة وطنية لا ترفًا فكريًا، ومسارًا أساسيًا لإعادة بناء الاقتصاد والمجتمع، لا مجرد نقاشات تُعقد في قاعات مغلقة وتنتهي بانتهاء الجلسات.
لقد أثبت الأردن أنّ الحوار الواسع حول الإبداع وريادة الأفكار ليس غاية بحد ذاته، بل أداة تُفتح بها الأبواب أمام مشاريع حقيقية تُعيد رسم ملامح المستقبل، وتنتقل بالأفكار من مستوى التصوّر إلى مستوى التنفيذ. فالابتكار هنا لم يعد شعارًا يُرفع، بل أصبح منهجًا يوجّه صناعة السياسات العامة، ويعيد تشكيل أنماط التخطيط العمراني، وإدارة الموارد، وتنظيم المدن، وتعزيز دور التكنولوجيا في خدمة الحياة اليومية. وقد جاءت الخطوات العملية الأخيرة لتؤكد هذا التحوّل، حيث باتت الدولة تتعامل مع طموحات الشباب والمبدعين بوصفها رصيدًا وطنيًا يجب البناء عليه، لا طاقة مهدورة على هامش القرارات الكبرى.
وفي هذا السياق، يبرز مشروع مدينة عمرة بوصفه التجسيد الأوضح لرؤية تنموية ناضجة، تشكّلت ملامحها من تراكم أفكار وطنية خُلقت في فضاءات نقاشية شاركت فيها عقول شابة ومبادرات ابتكارية، قبل أن تتحول إلى سياسات وإجراءات على أرض الواقع. فمشروع مدينة عمرة لا يكتفي بإضافة مساحات عمرانية جديدة، بل يعيد طرح سؤال جوهري: كيف يمكن للمدينة أن تكون أكثر استدامة، وأكثر ذكاءً، وأكثر قدرة على احتضان حياة عصرية تُراعي الإنسان والطبيعة والاقتصاد معًا؟
إنّ مدينة عمرة ليست مجرد توسّع جغرافي للعاصمة أو امتدادًا عشوائيًا للنمو السكاني، بل هي انتقال نوعي نحو صياغة نموذج جديد للمدن المستقبلية، تُبنى وفق رؤية متقدمة تحترم البيئة، وتتيح الفرص الاقتصادية، وتسهّل الحياة اليومية، وتخطط لأجيال قادمة، لا لسنوات محدودة. إنها ثمرة تفكير عميق في إمكانيات التحوّل الحضري، واستجابة واعية لحاجة الأردن إلى نموذج مختلف في بناء المدن، نموذج يستفيد من دروس المرحلة ويستند إلى مخرجات فكرية سبق أن نوقشت في منصات وطنيّة تعنى بالإبداع.
إن التخطيط الطويل الأمد الذي تقوم عليه المدينة يعكس إدراكًا عميقًا بأن الأردن بحاجة إلى نماذج حضرية جديدة تتجاوز التحديات التي تتكرر في المدن الكبرى، من ازدحام مروري وضغط على الخدمات وغياب المساحات الحيوية، إلى الحاجة لمدن تتكامل فيها التقنيات الحديثة مع متطلبات الحياة الكريمة. وهنا تكمن أهمية مشروع عمرة، الذي وُضع ليأخذ بعين الاعتبار مزيجًا متوازنًا من التحديات والفرص: النمو السكاني السريع، الحاجة لتوزيع التنمية بشكل عادل، خلق فرص اقتصادية جديدة، توفير بيئة سكنية للشباب، وضمان أن تبقى المدن الأردنية قابلة للحياة عبر العقود المقبلة.
وبهذا الشكل، يظهر المشروع وكأنه النمو الطبيعي لأفكار ابتكارية جرى تداولها وتطويرها، قبل أن تجد طريقها إلى سياسات تنفيذية ومشاريع كبرى تُسهم في صنع غدٍ أردني مختلف وأكثر إشراقًا.بهذا المعنى، فإن مشروع مدينة عمرة لا يعكس فقط نجاح منتدى الابتكار في إنتاج أفكار قابلة للتطبيق، بل يؤكد أنّ الأردن قادر على تحويل الرؤى الطموحة إلى مشاريع تُغيّر الواقع وتفتح آفاقًا جديدة أمام المواطنين، وتثبت أنّ الابتكار حين يُحاط بالإرادة السياسية والتخطيط الجيد، يصبح قوة حقيقية تدفع الأمم إلى الأمام.
مدينة عمرة ليست مشروعًا عابرًا، بل مشروع حضري ضخم يُشكّل نقلة نوعية في إدارة النمو السكاني الذي ينتظر المملكة خلال العقود المقبلة. فالتوقعات تشير إلى أنّ مدينتي عمان والزرقاء ستشهدان تضاعفًا سكانيًا قد يصل إلى أحد عشر مليون نسمة خلال خمسة وعشرين عامًا إذا استمر النمو على الوتيرة ذاتها. وفي مواجهة هذا الواقع، كان لا بدّ من تفكير جديد يتجاوز الأساليب التقليدية في التخطيط، ليقدّم حلولًا عملية تستجيب للضغوط السكانية، وتؤسس لمدينة حديثة تراعي احتياجات الجيل القادم، بدل أن ترث أزماتهم. وهنا، جاءت مدينة عمرة كمساحة مدروسة بعناية، تتوزع فيها الاستخدامات العمرانية المختلفة السكنية، التجارية، الصناعية، التعليمية، والسياحية وفق تخطيط محكم يضمن نموًا متوازنًا واستدامة تمتد لربع قرن قادم.
ويتميّز المشروع بطابعه الأخضر والذكي، إذ صُمّم ليكون مدينة مستدامة تعتمد على أحدث تقنيات الطاقة النظيفة، وحلول النقل العام الحديثة، والبيئات الرقمية المتقدمة، بما يجعلها بيئة جاذبة للشباب والخبرات، ومحضنًا لنمط حياة حديث تتكامل فيه التكنولوجيا مع العمارة والبيئة. وقد جاء تشكيل مجلس استشاري شبابي ليؤكد أن هذه المدينة ليست حلمًا يُصنع في المكاتب، بل رؤية مشتركة يُسهِم فيها الشباب والمبدعون من مختلف التخصصات، بدءًا من الهندسة والعمارة، مرورًا بالبيئة والطاقة والتكنولوجيا، وصولًا إلى الفنون والتطوير العقاري. إنّ بصمة الشباب في هذا المشروع تمنحه روحًا جديدة، وتجعل منه نموذجًا وطنيًا فريدًا في إشراك الجيل القادم في رسم ملامح المستقبل.
ولأنّ الأردن لطالما اعتزّ بمؤسساته الوطنية، فقد خُصِّصت عشرة بالمئة من أراضي المشروع للقوات المسلحة الأردنية، وهي خطوة تعبّر عن التكامل بين مؤسسات الدولة في دعم المشاريع الاستراتيجية. كما ستُسهم القوات المسلحة من خلال سلاح الهندسة في تطوير جزء من البنية التحتية، بما يُبرز قدراتها الفنية والتنظيمية، ويُضيف للمشروع عنصرًا من الثقة والجدية في التنفيذ. وفي الوقت ذاته، تم تخصيص عشرين ألف دونم من أراضي الخزينة المجاورة للمؤسسة العامة للإسكان والتطوير الحضري، من أجل تطويرها لصالح الموظفين والمتقاعدين وسكان لواء الموقر، ما يعكس بُعدًا اجتماعيًا مهمًا يرافق البعد التنموي للمشروع.
إن إطلاق المرحلة الأولى من مدينة عمرة، بوصفها نواة لمدينة مستقبلية تمتد مراحل تطويرها على مدى خمسة وعشرين عامًا وبشكل عابر للحكومات، يمثل خطوة شجاعة نحو التخطيط العقلاني بعيد المدى. فالمدن الكبرى لا تُبنى في سنة أو سنتين، بل في رؤى متراكمة تُدار عبر الزمن. والرهان هنا ليس على الحجر وحده، بل على الإنسان الذي سيعيش ويعمل ويبدع داخل هذه المدينة، وعلى الفرص الاقتصادية والاستثمارية التي ستنطلق من قلبها، لتُسهم في خلق بيئة إنتاجية جديدة تدعم الاقتصاد الوطني، وتوفّر فرص عمل واسعة للشباب، وتحدّ من الضغط السكاني على العاصمة والمناطق المحيطة.
لقد أثبت مشروع مدينة عمرة أن الأردن، رغم محدودية موارده، قادر على إطلاق مشاريع بحجم المستقبل. وأنّ الأفكار التي تولد في منصات الابتكار يمكن أن تتحول إلى مدن حقيقية، وإلى رؤية عمرانية تتقاطع فيها الاستدامة مع الحداثة، ويتداخل فيها التخطيط مع التكنولوجيا، ويلتقي فيها طموح الدولة مع طموح شعبها. هذه المدينة ليست مجرد مخطط هندسي، بل إعلان واضح عن مرحلة جديدة تتشكل فيها هوية عمرانية أردنية قادرة على المنافسة، وقادرة على احتضان الجيل القادم بأفكاره وأحلامه.
وهكذا، فإن مدينة عمرة ليست مشروعًا للبناء فحسب، بل مشروع لبناء المستقبل. مستقبلٍ يقوم على الإبداع لا التقليد، وعلى التخطيط لا الارتجال، وعلى الشراكة لا الإقصاء، وعلى الإيمان بأنّ الأردن قادر على أن يصنع لنفسه مكانًا متقدمًا في عالم المدن الذكية والمستدامة. إنها خطوة جديدة في رحلة الوطن نحو عصر جديد، تلتقي فيه قوة الابتكار مع حكمة التخطيط، لتنطلق منه مدينة تنبض بالحياة، وتكتب للأردن فصلًا جديدًا من فصول التقدّم والنماء.