في خضم التحولات الجيوسياسية والاقتصادية الكبرى التي يشهدها العالم، تتوسع التساؤلات حول مستقبل النظام النقدي الدولي، ومكانة الدولار الأميركي فيه؛ فبعد عقود من الهيمنة شبه المطلقة، لم تعد العملة الخضراء في مأمن من الضغوط المتزايدة الناتجة عن الحروب التجارية وتأثير سلاح العقوبات الأميركية، فضلاً عن تراجع الثقة في حيادية النظام المالي العالمي الذي تقوده واشنطن.
في هذا السياق تأتي التحركات التي تقودها قوى كبرى مثل الصين وروسيا، والمبادرات العابرة للحدود مثل توسع استخدام العملات الوطنية في التبادلات التجارية، لتعبّر عن تحوّل استراتيجي أعمق يهدف إلى تقليص الاعتماد على الدولار وتقويض مركزه كمحور للنظام المالي العالمي. وقد تزايد هذا التوجه في أعقاب استخدام الدولار كسلاح سياسي واقتصادي، لا سيما بعد فرض عقوبات واسعة على خصوم الولايات المتحدة.
هذا المشهد المعقّد يثير تساؤلات جوهرية: هل نحن أمام بداية النهاية لهيمنة الدولار؟ أم أن النظام الحالي، رغم عيوبه، لا يزال قادراً على الصمود أمام هذه التحديات؟
وتأتي أحدث التصريحات التي أدلى بها محافظ البنك المركزي الصيني يوم الأربعاء، لتكشف بوضوح عن خطة لإنشاء نظام مالي عالمي يعتمد على عدة عملات رئيسية، وليس الدولار فقط، في الوقت الذي تكثف فيه بكين حملتها لإضعاف هيمنة الدولار الأميركي.
ولم يذكر محافظ بنك الشعب الصيني، بان جونج شنغ، الدولار بالاسم، ولكنه قدم نقداً موسعاً للمخاطر المحتملة الناجمة عن الاعتماد الدولي على عملة دولة واحدة.
وفي “إشارة مشفرة” إلى الولايات المتحدة، أشار بان إلى المخاطر التي تشكلها المشاكل المالية والتنظيمية في الدولة المصدرة للعملة الرئيسية في العالم. وأضاف أن هذه المشاكل “قد تتحول إلى مخاطر مالية في العالم، وربما تتطور إلى أزمة مالية دولية”.
ويشير تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” في هذا السياق إلى أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد تحدثت عن إضعاف الدولار مقابل العملات الأخرى لجعل الصادرات الأميركية أكثر جاذبية للمشترين في الخارج. وقد تراجع الدولار بشكل ملحوظ هذا العام، بما في ذلك انخفاض بنسبة 11 بالمئة مقابل اليورو.
وفق التقرير، فقد يُسهم ضعف الدولار في تقليص العجز التجاري الأميركي. ولكنه قد يُؤدي أيضاً إلى زيادة تكلفة اقتراض الحكومة الأميركية في ظل عجز الميزانية الفيدرالية المتزايد باستمرار .
أبقت الصين قيمة عملتها (اليوان) مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدولار. وهذا يعني أن قيمة عملتها انخفضت مع انخفاض الدولار، مما زاد من تنافسية أسعار صادرات الصين في أوروبا، شريكها التجاري الرئيسي، وفي أماكن أخرى.
يُعد الدولار الأميركي بلا منازع العملة الرئيسية المستخدمة في التجارة العالمية، بما في ذلك عندما يتعلق الأمر بالصين، يليه اليورو.
ازداد استخدام اليوان في السنوات الأخيرة، ولكنه لا يزال لاعبًا ثانويًا في التجارة الدولية، وفق البيانات التي أشار إليها التقرير.
حذّر بان من أن أي دولة ذات عملة مهيمنة تسعى حتماً إلى “استغلالها” بشكل غير عادل خلال النزاعات الجيوسياسية.
وفي هذا السياق، يوضح التقرير أن “قوة الدولار تكمن جزئياً في استخدامه الواسع النطاق في تمويل التجارة الدولية”.
بينما تواجه الصين عقباتٍ هائلة في الترويج لعملتها كبديلٍ للدولار. ومن أبرز هذه العقبات فائضها التجاري الضخم والمتزايد . ونتيجةً لذلك، يُستخدم جزءٌ كبيرٌ من اليوان المتداول في الخارج عادةً لشراء المزيد من السلع الصينية أو سداد ديونها للصين.
علاوةً على ذلك، تفرض الصين قيودًا صارمة على كيفية تحويل اليوان داخل البلاد وخارجها. والهدف هو منع الشركات والأسر الصينية من إرسال مدخراتها إلى دول أخرى لحفظها أو لتحقيق عوائد مالية أفضل. لكن هذه القيود تجعل اليوان وسيلةً غير فعّالة للأجانب لتخزين القيمة.
وفي السنوات الأخيرة، نجحت بكين في إقناع الدول النامية بتسوية بعض موازينها التجارية مع الصين باليوان.
نظام جديد
من جانبه، يقول رئيس قسم الأسواق العالمية في Cedra Markets ، جو يرق، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
من المرجّح ظهور نظام نقدي عالمي جديد، ولكن الأمر بالتأكيد لن يتحقق على المدى القصير.
لقد بدأ الدولار، دون إنكار، يخسر مكانته خلال العشرين سنة الأخيرة، وقد زادت هذه الخسارة بشكل ملحوظ هذا العام.
الدليل الأكبر هو في احتياطات النقد الأجنبي العالمية، إذ كانت الدول تحتفظ بما يقارب 70 بالمئة منها بالدولار الأميركي، وقد تراجع هذا الرقم إلى نحو 50 بالمئة بنهاية عام 2024.
ويضيف: هناك عوامل إضافية عزّزت هذا التوجه، لاسيما بعد الحرب التجارية التي شنّها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الأمر الذي دفع العديد من الدول إلى الابتعاد عن الدولار واللجوء إلى عملات بديلة، بل والتفكير في تأسيس نظام نقدي جديد.. وقد شهدنا محاولات من قبل الصين، بالتعاون مع روسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا ضمن مجموعة البريكس، لتوسيع نطاق النظام وضم دول أخرى، ولكن هذه المحاولات لم تُترجم إلى تطبيق فعلي في الوقت الراهن.