يساعد الذكاء الاصطناعي في تحسين تصميم العمليات الهندسية؟

حسام الحوراني

في عمق المعادلات وفي خطوط الرسم الهندسي المعقد، كانت العمليات التصميمية في الهندسة دومًا رحلة شاقة من المحاولة والخطأ، حيث يعتمد المهندس على حدسه وخبرته، ويقضي ساعات في تحليل المتغيرات المتشابكة، من أجل الوصول إلى ما يُعرف بالحل «المثالي». لكن في عالم اليوم، لم يعد المثالي مرادفًا لما هو ممكن، بل لما هو قابل للتعلّم، والتحسين المستمر، بل والابتكار التلقائي. لقد دخل الذكاء الاصطناعي إلى هذا الحقل، لا كأداة فقط، بل كعقل جديد يفكر مع المهندس، بل أحيانًا يفكر أبعد منه.

الذكاء الاصطناعي لا ينظر إلى التصميم الهندسي كمجموعة من القيود، بل كفرصة لاستكشاف احتمالات لا نهائية. يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي أن تُحلل ملايين السيناريوهات الممكنة في وقت قياسي، وتختار الأفضل منها بناءً على أهداف محددة مسبقًا: تقليل التكاليف، تحسين الكفاءة، تقليل الوزن، زيادة الأمان، أو حتى دمج كل هذه الأهداف معًا. في هذا السياق، لم يعد التصميم مجرد «رسم»، بل أصبح حوارًا مستمرًا بين الإنسان والآلة، يخرج منه الشكل الأكثر تكاملًا، والأقرب للكمال.

تخيّل أن تكون مهندسًا في مشروع ضخم لبناء جسر أو محطة طاقة أو نظام تبريد صناعي. الذكاء الاصطناعي لا يمنحك فقط أدوات تحليل، بل يصنع لك نماذج تصميم متعددة، يقترح تحسينات لم تخطر على بالك، يرصد الثغرات قبل أن تراها، ويُحاكي أداء النظام في ظروف مختلفة ليعطيك رؤية مستقبلية لما قد يحدث. إنه ليس مجرد آلة حساب، بل شريك إبداع. إنه يرى الصورة الكبيرة، والجزئيات الصغيرة، في وقت واحد، وبدقة فائقة.

ولعل أعظم ما يقدمه الذكاء الاصطناعي هو التحرر من القيود التقليدية. الهندسة لطالما ارتبطت بالقوانين الجامدة، لكن الذكاء الاصطناعي يضيف إليها لمسة من التكيّف. فبدلًا من أن يبني المهندس نظامًا ثابتًا، يمكنه الآن تصميم نظام ذكي يتعلم من بيئته، ويتكيّف مع التغيرات المحيطة، ويعيد ضبط نفسه تلقائيًا. هذا بالضبط ما نراه في أنظمة الطاقة الذكية، وفي تصميم الأبنية الذكية، وفي خطوط الإنتاج ذاتية التعديل.

بل وأكثر من ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي يعزز التعاون بين مختلف التخصصات الهندسية. فمن خلال منصات التصميم المدعومة بالذكاء، يمكن لمهندس الكهرباء أن يرى كيف يؤثر قراره على مهندس الميكانيك، ويمكن لمهندس الإنشاءات أن يتفاعل لحظيًا مع تغييرات مهندس التصميم الداخلي. الذكاء الاصطناعي يبني بيئة عمل موحّدة، شفافة، وفعالة، تختصر الزمن وتقلل التكاليف، وترفع من جودة النتائج النهائية.

ومع دخول تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى عالم التصميم، أصبح بإمكان الأنظمة أن تخلق تصاميم من العدم، بناءً على أهداف عامة. هذه التقنية – المعروفة بالتصميم التوليدي – تسمح بابتكار أشكال هندسية غير تقليدية، أكثر كفاءة وأقل هدرًا، كما نراها اليوم في تصميم أجزاء الطائرات، والهياكل المعمارية، وحتى في الصناعة الطبية كتصميم الأطراف الصناعية. أصبح الذكاء لا يكرر الماضي، بل يصنع أشكالًا جديدة لم يعرفها العقل البشري من قبل.

لكن هذه الثورة لا تعني أن المهندس سيُستبدل. بل على العكس، الذكاء الاصطناعي يُحرر المهندس من التكرار، ويمنحه وقتًا أطول للتفكير الإبداعي، والتحليل العميق، والتجريب الحر. الذكاء الاصطناعي لا يُقصي الإنسان، بل يدفعه لأن يصبح أكثر إنسانية: أن يكون مفكرًا، صانع قرار، مبدعًا، لا مجرد منفّذ. وكلما ازداد تفاعل المهندس مع الآلة، زادت قدرته على تخيّل مستقبل لا تحدّه قوانين اليوم.

إن الوطن العربي، وهو على أعتاب تحولات اقتصادية وصناعية عميقة، بحاجة ماسة إلى تبني هذا النمط من الذكاء. الجامعات، مراكز البحث، شركات الهندسة، وحتى الصناعات الثقيلة، جميعها تستطيع أن تجعل من الذكاء الاصطناعي ركيزة في تصميماتها، فتُقلص التكاليف، وتُحسّن الأداء، وتُطلق موجة من الإبداع الهندسي لم نعهدها من قبل. نحن لا نفتقر إلى العقول، بل إلى الشجاعة بأن نمنح هذه العقول الأدوات التي تستحقها. والذكاء الاصطناعي هو الأداة الكبرى في هذا العصر.

إن التصميم الأمثل لم يعد حلمًا بعيدًا. لقد أصبح واقعًا ينبض في المعادلات، ويتجسّد في المنتجات، ويكبر في عقل كل من آمن أن الذكاء ليس حكرًا على البشر، بل شراكة مع ما يُبدعه البشر. التصميم الأمثل اليوم لا يحتاج فقط إلى عقل حاد، بل إلى شغف، وجرأة، واستعداد دائم لتعلّم الجديد. ومن يملك هذه الروح، لن يكون مجرد مهندس بل صانع عالم جديد.

Related posts

انتعاش التجارة البينية بين الأردن وسورية

التعليم والعمل والتحديث الاقتصادي

خطة التحديث الاقتصادي ٢