البيانات أولًا: نفط الأردن الرقمي والاصل السيادي القادم

 

خارطة طريق من التشريع والحوكمة إلى التكامل البلدي لتحويل البيانات إلى قيمة اقتصادية وسيادة رقمية

في عالمٍ تتسارع فيه التحولات الرقمية وتغدو فيه البيانات المورد الأهم لبناء النفوذ الاقتصادي وصنع القرار، لم تعد الموارد الطبيعية وحدها مقياس قوة الدول. اليوم، أصبحت القدرة على جمع البيانات وتحليلها وتوظيفها العامل الحاسم في تشكيل الاقتصادات الحديثة. بالنسبة للأردن، بلد محدود الموارد الطبيعية لكنه غني بالكفاءات البشرية والبنية الرقمية المتنامية، تمثّل البيانات فرصة استراتيجية للانتقال من مجرد استهلاك التكنولوجيا إلى صناعة القيمة الرقمية. هذه الثروة الجديدة، إذا أُديرت برؤية واضحة، يمكن أن تصبح محرّكًا رئيسيًا للتنمية المستدامة وتعزيز تنافسية الأردن إقليميًا وعالميًا. ولهذا أقول بوضوح: البيانات هي نفط الأردن الجديد، بشرط أن نحسن حوكمتها وتحويلها إلى قيمة اقتصادية ملموسة.

رغم القفزات الواضحة في البنية الرقمية، ما يزال الأردن في مرحلة انتقالية نحو اقتصاد بيانات متكامل. فالمؤشرات تعكس طفرة لافتة؛ بلغ عدد مستخدمي الإنترنت عام 2025 نحو 10.7 مليون مستخدم بنسبة نفاذ تقارب 92.5%، وارتفعت سرعات الإنترنت لتبلغ على الثابت قرابة 161 ميجابت في الثانية وعلى الهاتف المحمول نحو 30 ميجابت في الثانية، فيما يناهز عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي 6.45 مليون مستخدم مع نمو سنوي مستمر. وعلى المستوى المؤسسي، وحّدت الحكومة الدخول إلى الخدمات عبر الهوية الرقمية «سند» وأتاحت مئات الخدمات على بوابة موحدة، وأُقِرّ قانون حماية البيانات الشخصية لعام 2023 ودخل حيّز النفاذ، إلى جانب منصة وطنية للبيانات الحكومية المفتوحة. غير أنّ الفجوة الأوضح تبقى عند المستوى البلدي حيث تتشتت قواعد البيانات التشغيلية وتغيب لوحات متابعة للمشاريع والإنفاق ومؤشرات الأداء، ويظل التكامل مع «سند» غير مكتمل، ما يكشف عن حاجة ملحّة لتمتين الحوكمة التشغيلية للبيانات داخل الإدارات المحلية. باختصار، تحقق تقدّم وطني معتبر، لكن تحويله إلى قيمة ملموسة يومية للمواطن يتطلب إنزال هذا التقدّم إلى طبقة البلديات حيث تُقدَّم الخدمة ويُبنى الانطباع العام.

وليست هذه استعارة إنشائية؛ فالبيانات نفط رقمي بمعنى أنها أصل سيادي تتضاعف قيمته كلما أُحسن جمعه وتكريره وتحليله وتوزيعه. فإذا كان النفط يُستخرج من باطن الأرض ليغذي المصانع والمركبات، فإن البيانات تُستخلص من نبض المجتمع وحركة الاقتصاد لتغذي مراكز القرار وتوجّه السياسات. هذه الثروة اللاملموسة لا تفقد قيمتها بالاستهلاك بل تتزايد كلما أُعيد استخدامها، وتؤكد الأدبيات الاقتصادية الحديثة أن مساهمة اقتصاد البيانات في الناتج العالمي تتسارع، وأن الدول التي سبقت إلى بناء بنى حوكمة قوية لبياناتها حققت قفزات في الاستثمار والابتكار. وهذا يفتح أمام الأردن فرصة واضحة لتحويل قواعد البيانات الحكومية وسجلات القطاعات الصحية والتعليمية والسياحية وأنظمة الطاقة إلى أصول إنتاجية متكاملة تُستخدم في التخطيط الاستباقي وتخصيص الموارد بكفاءة، مع تعزيز الأمن الوطني والسيادة الرقمية.

غير أن الاستثمار في البيانات لا يكتمل بمنصات تقنية فحسب، بل يتطلب منظومة متكاملة تشمل التشريعات والبنية التحتية والكفاءات البشرية وآليات تشغيل واضحة. لا قيمة لجبال من الأرقام إذا لم تتحول إلى معرفة عملية قادرة على توجيه الموارد وتحفيز القطاعات وابتكار فرص اقتصادية جديدة. والسؤال العملي هنا: كيف يترجم الأردن أصوله الرقمية الوطنية إلى قيمة مضافة على مستوى الخدمة العامة والاقتصاد المحلي؟

تتكشف الإجابة عند النظر إلى القطاعات ذات الأولوية. ففي الصحة، تساعد الأنظمة المتكاملة والتحليلات التنبؤية على خفض الهدر والتحول من منطق العلاج إلى منطق الوقاية عبر توقع الطلب على الخدمات والأدوية وتوزيع الكوادر بكفاءة. وفي السياحة، يتيح تحليل سلوك الزوار وأنماط الإنفاق والتقييمات الرقمية الانتقال من حملات عامة إلى تجارب شخصية ترفع العوائد وتطيل مدة المكوث. وفي الطاقة، تمكّن الشبكات الذكية من تقليص الفواقد وتحسين التنبؤ بالطلب ودمج الطاقة المتجددة بكفاءة أعلى بما يدعم أهداف الحياد الكربوني ويخفّض الكلفة على المستهلك. أما في البلديات والخدمات العامة، فإن نشر البيانات التشغيلية لحظيًا عن المشاريع والميزانيات ومؤشرات الأداء يعيد بناء الثقة ويُمكّن المشاركة، شريطة دمج الطبقة المحلية مع «سند» وربطها بلوحات متابعة موحدة. وفي التعليم، تتيح البيانات الدقيقة تصميم تدخلات تستهدف الفجوات الفعلية وتحسين النتائج بصورة قابلة للقياس.

ولبناء اقتصاد وطني قائم على البيانات، تحتاج المملكة إلى تفعيل أربع ركائز مترابطة في صيغة عملية متناغمة. الأولى بنية تحتية سيادية قوامها مراكز بيانات محلية آمنة وشبكات عالية الاعتمادية وأمن سيبراني متقدم. الثانية إطار تشريعي وحوكمي لا يكتفي بحماية البيانات الشخصية، بل يرسي معايير واضحة لتبادل البيانات وتكاملها بين الجهات ويحدد الأدوار والمسؤوليات عبر دورة حياة البيانات. الثالثة رأس مال بشري مؤهل عبر مسارات مهنية وتعليمية في علوم البيانات والذكاء الاصطناعي وإدارة المنتجات الرقمية، وتمكين القيادات الوسطى من استخدام البيانات يوميًا في صنع القرار. والرابعة تكامل تشغيلي مع البلديات بواجهات برمجية موحّدة تربط الأنظمة المحلية بالمنصات الوطنية وتُلزم بنشر مؤشرات المشاريع والإنفاق على لوحات عامة قابلة للتتبّع والمساءلة.

ولكي تصير عبارة «البيانات نفط الأردن الجديد» واقعًا ملموسًا، ينبغي نقل التقدم الوطني إلى طبقة البلديات عبر تكامل تشغيلي واضح وحوكمة بيانات محلية منضبطة. ويُترجم ذلك بمسارين متزامنين: مسار تشريعي وحوكمي يستكمل اللوائح التنفيذية والأدلة الإجرائية لقانون حماية البيانات ويُقر سياسة وطنية لتبادل البيانات بين الجهات مع نموذج حوكمة واضح لبيانات البلديات تحت إشراف مشترك بين وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة ووزارة الإدارة المحلية؛ ومسار تشغيلي وتقني يُعمّم تكامل البلديات مع «سند»، ويبني لوحة وطنية موحّدة لبيانات المشاريع والإنفاق ومؤشرات الأداء مرتبطة بمنصة البيانات المفتوحة، مع برنامج تمويل تحفيزي للبلديات الملتزمة بالشفافية وجودة البيانات وحاضنة حلول للشركات الناشئة تبني تطبيقات على هذه البيانات.

وعلى مدى قصير يمتد بين ثلاث إلى خمس سنوات، يمكن للأردن وضع الأساسات الأولى لاقتصاد بيانات متكامل عبر توحيد قواعد البيانات الحكومية والبلدية ذات الأولوية، وأتمتة غالبية الخدمات العامة وربطها بأنظمة تتبع لحظي، واستكمال المنظومة التشريعية والتدريبية اللازمة للامتثال وحماية الخصوصية، بما يمهّد لظهور سوق محلية أكثر نضجًا في التحليلات الذكية والذكاء الاصطناعي ويجذب شراكات استثمارية نوعية. وعلى مدى أبعد بين عشر وخمس عشرة سنة، يغدو الأردن مؤهلًا للتحول إلى مركز إقليمي لصناعة البيانات وخدماتها مع مساهمة أكبر للاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي، وبنية سيبرانية ناضجة، وسوق عمل يعيد توزيع المهارات نحو التحليل التنبؤي وعلوم البيانات والأمن الرقمي، فتتحول البيانات عمليًا إلى نفط رقمي يُعمّق القوة الاقتصادية ويحسّن جودة الحياة.

خلاصة القول إن البيانات ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لصناعة قرارٍ أفضل وخدمةٍ أذكى واقتصادٍ أكثر مرونة. وقد قطع الأردن شوطًا مهمًا على المستوى الوطني، وبقيت العقدة في نقل هذا التقدم إلى المستوى المحلي حيث تمسّ الخدمة حياة الناس. وعند اكتمال هذه المنظومة فقط، يحق لنا القول إن البيانات صارت حقًا نفط الأردن الجديد.

 

Related posts

الحجز لقاء الدين !.

مبادرة تنظيم الظواهر الاجتماعية وتحفيز المشاركة المجتمعية

صندوق رأس المال.. نموذج استثماري ابتكاري