موازنة صحية لميزانية الصحة

اسواق جو – قد يبدو الإغلاق الحكومي في أمريكا خبرا لا يعني سوى المعنيين بالشأن الأمريكي لكنه في صميم اهتمامات من يعي الفرق بين الميزانية والموازنة، بين ما هو تخطيط للمستقبل وما هو تأطير للحاضر بما يصنع غدا أجمل يليق «بكبرتنا» -معشر كبار القدر والسن- وبأحبتنا الذين نفتديهم بالأرواح، فلذات أكبادنا: أبناؤنا وأحفادنا.
للمرة الثانية وكما في ولايته الأولى يسجل زعيم الأقلية الديموقراطية في مجلس الشيوخ السيناتور المخضرم تشاك تشومر ثاني أطول إغلاق حكومي في التاريخ الأول خمسة وثلاثين يوما غير متصلة في ولاية الرئيس دونالد ترمب الأولى، والثاني -الذي انتهى الأربعاء- ثلاثة وأربعين يوما في ولايته الثانية.
الإغلاقان كانا بسبب الخلافات على الفاتورة الصحية التي يتحمل أعباءها في المقام الأول الفرد، ومن ثم زملاء العمل مجتمعين إن كان المؤمن عليه صحيا في شركة، بالإضافة الى دافعي الضرائب -المواطنون الأميركيون- حيث لا تدفع الحكومة الفوارق من جيبها، بل عمليا من جيوب المواطنين المنتفعين بالتأمين الصحي أيا كان خاصا أم حكوميا أم عموميا (نقابيا أو ائتلافيا ما بين هيئات من أي طبيعة كانت).
الخلاف الجذري يبدو سياسيا أو ماليا بأنه حول نسب المساهمة المالية للمشترك بالتأمين مقابل ما تدفعه الشركة أو الحكومة، وقد كانت خطة «أوباما كير» للرعاية الصحية وما زالت أساس السجال بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي وبين أجنحة كل من الحزبين فضلا عن المستقلين والمتأرجحين، لكن جوهر القضية كان وما زال سواء في أمريكا أو دول العالم كلها بما فيها المتقدم والنامي، الغني والفقير هو حاصل العلاقة العضوية البنيوية بين ثلاثة مفاهيم (الصحة، الأسرة والمجتمع): ما الذي يجعلنا أصحاء؟ وتلك مفاهيم وحقائق في مقدمتها الإيمان بأن الصحة نعمة لا تدوم إلا في صون الأمانة. نحن كبشر -أفرادا وجماعات وحكومات ومعارضات- مؤتمنون على ذواتنا بكل مكوناته كأفراد من صحة روحية فعقلية فنفسية «فنفسجسمانية» فجسمانية. خلقنا الله سبحانه من صلصال نؤمن في رسالات السماء، لكن الكثير يتغافل للأسف أو يجهل أن الخلق في الأرحام نسج نسجا لا تركيبا وعلوم الطب والصيدلة بأنواعها في هذا الزمان أوغلت في التخصص في أصغر أجزاء كل شيء في جسم الإنسان لدرجة تعامت أو تناست أن الإنسان كل متكامل وكذلك المجتمع إن صح فرد صح الجميع والعكس صحيح. المشكلة الجوهرية في ملف الصحة في أمريكا هو ما أقرت به الأوساط الطبية وليس السياسية فقط بأنها مشكلة الطلقة الفضية أو الحبة السحرية التي تعالج كل داء وتكمّل كل غذاء ودواء فصارت صناعات أحدثتها مجموعات خطرة من جماعات الضغط والتأثير «لوبيات» متعددة الأذرع التي لها «جماعاتها» في كل ساحة وميدان بما فيها ما تسمى دراسات وأبحاث لا تكون علمية وأكاديمية بقدر ما هي تسويقية «تسييسية» محكومة بالأيدولوجيا ظاهريا والمصالح باطنيا.
أفضى الأمر في بضع عقود إلى ظاهرة الإفراط في التشخيص والإفراط أكثر في التداوي. انصب الأمر على العرض لا المرض. وسرعان ما انتقل الداء العضال من الرعاية الصحية إلى الرعاية الاجتماعية، فاتضح أن كثيرا من الأمراض لا بل وحتى الجرائم هي في الأصل نتاج خلل مركب ومتراكم من الأخطاء والخطايا المتعلقة بحجر الزاوية واللبنة الأساسية لما أراده سبحانه في الخلق ألا وهو الإنسان والأسرة إن صحت صح المجتمع والدولة.
من الآخر، لن تكون لأي دولة أو أسرة ميزانية صحية تصح فيها الواردات والنفقات على نحو متوازن ما لم تكون لنا وقفة كأفراد وكأسر ووطن مع إحدى أهم بنودها وهي الميزانية الخاصة بقطاع الصحة. أحمد الله كثيرا ودائما على نعم التأمين الصحي و التأمينات والرعاية الاجتماعية لكنها سواء في أمريكا أو الأردن أو أي بلد بحاجة إلى نظرة تصويبية تنأى عن جميع الأطراف المعنية بميزانية صحية وموازنة الصحة، تنأى عن الاتكالية في التعامل مع أعظم وأقدس نعم الله ألا وهي ائتمان خالقنا لنا على أنفسنا، هذا الهيكل العظيم الذي استودع فيه رب الأرباب سبحانه الروح والحياة فلا يعمد بعضنا إلى التراخي فيما يعمر هذا البناء المقدس ويسأل الناس بعدها أو الحكومة بأن أدركوني وإلا فقدتموني! مليارات الدنيا لن تكفي فاقد نعم الله التي لن نقدر أبدا أن نحصيها، ومنها الصحة. أولسنا رعاة؟ «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» وليس وزيرا الصحة والمالية فقط!

 

الدستور

Related posts

الذكاء الوكيلي.. بنوك تستبق الجريمة

الذكاء الاصطناعي بين تهديد الوظائف وصناعة المستقبل

تطوير منظومة الاستثمار الوقفي في مشروع قانون الأوقاف 2025