اسواق جو – الذكاء الاصطناعي لم يعد وعدًا مستقبليًا غامضًا؛ هو حاضر يتسلل إلى تفاصيل حياتنا المهنية واليومية. أنظمة أتمتة في المصانع، وبرمجيات تراقب أداء الموظفين، ومنصات تتولى خدمة الزبائن، وتطبيقات قادرة على كتابة نصوص وشيفرات برمجية خلال دقائق. هذا كله يعني أن جزءًا معتبرًا من المهام التي يقوم بها الناس اليوم يمكن أن تُنجز عبر الآلة بدرجات مختلفة من الدقة والسرعة والتكلفة.
الخطر الأكبر لا يكمن في اختفاء وظيفة هنا أو هناك، وإنما في اتساع الفجوة بين من يمتلك مهارات جديدة ومن يظل حبيس أدوات قديمة. من يتقن التعامل مع الخوارزميات سيجد نفسه أكثر قدرة على المنافسة، ومن يواصل الاعتماد على الحفظ والتكرار ووظائف التنفيذ البسيط سيتراجع دوره تدريجيًا. هنا تحديدًا تبرز مسؤولية التعليم والتدريب في الأردن، من المدرسة الأساسية إلى الجامعة، مرورًا بالتعليم المهني والتقني.
نحن بحاجة إلى تحول حقيقي في فلسفة التعليم، ينتقل بالمناهج من ثقافة الامتحان إلى ثقافة السؤال، ومن مركزية الحفظ إلى أولوية الفهم والتحليل والابتكار. في زمن الذكاء الاصطناعي تصبح مهارات التفكير النقدي، والقدرة على العمل في فرق متعددة التخصصات، وفهم الأنظمة المعقدة، وإدارة المعرفة، أكثر أهمية من أي وقت مضى. الإنسان الذي يجيد طرح الأسئلة العميقة وتوليد الحلول الجديدة سيبقى صاحب الدور الأهم حتى في أعتى البيئات الرقمية.
الأردن يمتلك عناصر قوة مهمة في هذا المضمار: قاعدة واسعة من الشباب، وانتشار برامج في الهندسة وعلوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي، وخبرات متراكمة في قطاع تكنولوجيا المعلومات، وحضور لمبادرات ريادة الأعمال في حاضنات الأعمال ومسرعاتها. هناك أيضًا طيف واسع من الكفاءات الأردنية في الخارج، في جامعات وشركات عالمية، تشكل رصيدًا معرفيًا يمكن توجيهه نحو الداخل إذا توافرت السياسات والحوافز المناسبة.
في المقابل، تظهر تحديات حقيقية لا يمكن تجاهلها؛ الفجوة بين المركز والمحافظات في البنية الرقمية، ضعف قدرة المشروعات الصغيرة والمتوسطة على تبني التقنيات الجديدة، محدودية برامج إعادة تأهيل العاملين داخل سوق العمل، وغياب ثقافة عامة ترى في الذكاء الاصطناعي فرصة لترقية الأداء لا تهديدًا مباشرًا للوجود. من دون معالجة هذه العوائق قد يتحول العالم الرقمي إلى نادٍ مغلق لطبقة محدودة من المتخصصين، في حين يبقى جزء من المجتمع على هامش التحول.
المطلوب اليوم رؤية أردنية تجعل من الذكاء الاصطناعي امتدادًا لذكاء الإنسان لا قيدًا عليه. رؤية تشاركية تشترك فيها الدولة والقطاع الخاص والجامعات والمجتمع المدني، تركز على ثلاثة مسارات متوازية: تطوير تشريعات تحمي الإنسان والبيانات من الاستخدام المسيء، بناء قدرات بشرية قادرة على إنتاج المعرفة الرقمية لا استهلاكها فقط، وتوفير بيئة حاضنة للمشروعات الابتكارية تجعل من الأردن مركزًا إقليميًا للحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي.
عند هذه النقطة يعود السؤال إلى صورته البسيطة والمصيرية في الوقت نفسه: هل نريد أن نكون مجتمعًا يكتفي باستخدام تطبيقات صممها الآخرون وفق أولوياتهم ومصالحهم، أم نطمح إلى إنتاج خوارزميات وحلول تنطلق من حاجاتنا وتجربتنا وقيمنا؟ السنوات الخمس المقبلة لن تنتظر أحدًا؛ من يستعد مبكرًا يمتلك القدرة على توجيه الموجة، ومن يتأخر يظل مشغولًا بترميم أثرها بعد أن تعيد رسم خريطة العمل والمعرفة من جديد.
الدستور
