تطرح العملات المشفرة تساؤلات جوهرية حول كيفية تعريفنا للناتج والدخل والنمو في ظل انتشار الابتكارات المالية وعدم اليقين. كيف يتناسب النمو السريع للعملات المشفرة مع الحسابات القومية؟ السؤال لا يهم الفنيين (الخبراء) فقط.
تُمثّل العملات المشفرة، إلى جانب أشكال أخرى من التكنولوجيا المالية، استثمارا في “المستقبل”. تُقدم العملات المشفرة بديلا للمعاملات بالأوراق النقدية ذات الفئات الكبيرة. كما بلغت إيرادات “بينانس”، أكبر بورصة عملات مشفرة في العالم، 16.8 مليار دولار أمريكي في عام 2024، وتوظف آلاف الأشخاص حول العالم، وتُحتسب رواتبهم ومكافآتهم كجزء من الدخل المحلي لبلدانهم. وتُقدر قيمة سوق العملات المشفرة العالمية بـ 4 تريليونات دولار أمريكي.
لكن من غير الواضح ما إذا كانت هذه العملات تُساهم بما يكفي في الناتج المحلي الإجمالي لتبرير اعتبارها استثمارًا، أو، بلغة الاقتصاد الكلي، تكوينًا لرأس المال الثابت المحلي الإجمالي. فتعدين العملات المشفرة لا يُولّد بالضرورة قيمة مضافة ذات معنى على الرغم من استهلاكه كميات هائلة من الكهرباء.
لننظر إلى كيفية حساب الناتج المحلي الإجمالي (القيمة المضافة الإجمالية) عادة. يجب أن يساوي الإنفاق الوطني (يتكون الإنفاق المحلي من الاستهلاك، والاستثمار، والإنفاق الحكومي، وصافي الصادرات) كلاً من الناتج والدخل المحليين. أي أن يتطابق ما تنفقه البلد مع ما تنتجه وما يكسبه سكانها. ولكن هذا التطابق قد لا يحصل عمليا بسبب الاقتصاد غير الرسمي وغير المشروع، فحسب بعض التقديرات بلغ حجم الاقتصاد غير الرسمي 20 تريليون دولار، وهو ما يعادل سدس إجمالي الناتج المحلي للعالم (115 تريليون دولار).
لاحظ أن القيمة المضافة ليست مجموع السلع والخدمات التي تنتج في عام، بل هي مجموع القيمة المضافة في الاقتصاد وهي قيمة الإنتاج الكلي مطروحا منه قيمة المدخلات الخام والوسيطة والتي تشمل المواد الخام، الطاقة، السلع نصف المصنعة… إلخ. وبذلك تكون القيمة المضافة مجموع الأجور والأرباح والفوائد والضرائب. لذلك، وعلى سبيل المثال، بلغ دخل الأردن من السياحة 7.24 مليار
دينار أردني، حوالي 14.5% من الناتج المحلي، ولكن ما قدمه من قيمة مضافة لا يتجاوز 4.5% (أجور، فوائد، ضرائب، وأرباح).
أيضا، وقبل الإجابة، فإن من المتعارف عليه أن العملات المشفرة تزدهر عادة في دول لا يوجد بها سلطة واحدة تمارس سيطرة فعالة، أو حيث تنظر الأنظمة إلى الفساد على أنه أمر تافه وتستهتر به. ومن الملاحظ أن عدم استقرار الدولة وأحادية قرارات بعض الدكتاتوريات يغذي عادة الطلب على العملات المشفرة للهروب بالأموال من تعسف الحكام.
دعونا نعود للسؤال الأساس: في أي من فئات الانفاق يندرج إنفاق العملات المشفرة؟ وكيف يُفترض استهلاكها تحديدًا؟ وإذا لم يكن من الممكن استهلاكها، فما نوع الإنفاق الذي قد تُعتبر من ضمنه؟ هنالك نسبة كبيرة من تداول العملات الرقمية يُجريها أفرادٌ يحترمون القانون. وقد يُصبح قلةٌ منهم أثرياء، تماماً مثل مقامري الكازينوهات. ولكن لا يمكن تجاهل أن مؤسس بينانس، تشانغ بينغ تشاو، قضى أربعة أشهر في سجنٍ أمريكي عام 2024 بعد إقراره بالذنب في غسل الأموال.
لذا فإن شراء العملات المشفرة سيبقى معضلة للباحثين الاقتصاديين، فهو رهان على نمو غسل الأموال وتهريبها وخلق اقتصادات موازية عالميًا، وسيظل خارج حسبة الناتج المحلي الإجمالي الى أن يتم تبويبه بشكل مقبول اقتصاديا أو حسب معادلات وتعريفات أكثر حداثة.