أكّد مركز الدراسات الإستراتيجية في ورقته البحثية الصادرة مؤخراً على القناعة الراسخة للعديد من المختصين؛ بأن قطاع الطاقة هو أحد أبرز الأمثلة على التداخل بين هشاشة السياسات الإقتصادية وديمومة الأنظمة الفنية، وما يترتب على هذا التداخل من أعباء مالية وإخفاقات هيكلية، وضياع فرص استراتيجية.
فمنذ أكثر من عقد يراوح هذا القطاع مكانه بين الإصلاح المؤجل والقرارات الارتجالية، بينما تتراكم المديونية وتتراجع التنافسية، ويتعمق الخلل بين كلف الإنتاج وأسعار البيع. وبات من الواضح أن معالجة هذا الملف لم تعد ترفاً، بل ضرورة وطنية ملحّة.
لقد بدأت أزمة قطاع الكهرباء في الأردن مع انقطاع الغاز المصري في أعقاب أحداث الربيع العربي، الأمر الذي دفع المملكة إلى الإعتماد على الوقود التقليدي عالي الكلفة. ورغم أن الحكومة قررت حينها عدم عكس تلك الكلف على المستهلكين، فإن الثمن كان باهظًا، فقد تراكمت ديون شركة الكهرباء الوطنية إلى أكثر من 6 مليار دينار في عام 2024 مرشحة للزيادة، وهو ما يعادل 14.5% من إجمالي الدين العام ونحو 16.7% من الناتج المحلي الإجمالي.
ومع عودة إمدادات الغاز وتوقيع اتفاقيات جديدة، شهدت الكلفة التشغيلية بعض الانخفاض، لكن الأزمة البنيوية ظلت قائمة، بل وتعقدت مع دخول الأردن في التزامات طويلة الأجل في مشاريع الطاقة المتجددة والصخر الزيتي، ضمن عقود “Take or Pay”، التي تُجبر الحكومة على الدفع مقابل طاقة غير مستهلكة، مما عمّق العجز وأبقى الكلف مرتفعة رغم تراجع الطلب.
حالياً تعتمد الحكومة اليوم على رفع التعرفة الكهربائية لتعويض العجز، لكنها بذلك تُقصي الشريحة الأكبر من المستهلكين، وتدفع كبارهم إلى (الإنفصال) عن الشبكة أو (تقليص) استهلاكاتهم، مما يقلل من الإيرادات المحصّلة، ويزيد من عبء رسوم القدرة التي تُدفع مقابل كميات طاقة غير مستهلكة.
المطلوب اليوم هو إعادة صياغة فلسفة إدارة قطاع الطاقة، من خلال تبنّي تعرفة مرنة ومحفّزة لا تثقل الفئات المنتجة وتشغيل الفائض الإنتاجي عبر تصدير الكهرباء إلى دول الجوار، بدلاً من تحمل كلفته محلياً دون استهلاك. ودعم المركبات الكهربائية كرافعة اقتصادية، وليس فقط كأداة حافظة للبيئة.
خلاصة القول فإن قطاع الطاقة في الأردن يمثل واقعاً لهشاشة السياسات الإقتصادية التي تفتقر إلى المرونة، وتقابلها أنظمة فنية مستدامة تُدار بعقود طويلة لا تستجيب للطلب أو التحولات الفنية. وأن بقاء القطاع على هذا الواقع سيؤدي إلى تآكل القدرة الإنتاجية، وإضعاف فاعلية المالية العامة وتراجع رفاه المواطنين. أما التحول نحو منظومة مرنة وعادلة واستباقية، فسيجعل من قطاع الطاقة رافعة حقيقية للنمو، بدلاً من كونه عبئاً مزمناً على الموازنة.