Home مقالاتالتّعلّمُ وعيٌ فاعل

التّعلّمُ وعيٌ فاعل

by sadmin

الدكتور سلطان المعاني

يُقال إنّ التعليم هو مفتاح الأبواب، لكن جوهره الأعمق أنّه مفتاح التعلّم، فهو يفتح أمام الإنسان طريقًا لا ينتهي من اكتشاف ذاته والعالم من حوله. فالتعليم الحقيقي يُعلّم كيف نتعلم، وكيف نُعيد بناء معارفنا باستمرار، وكيف نُحوِّل التجربة اليومية إلى درسٍ يُثري وعينا ويقوّي أدواتنا. في هذا المعنى، يصبح التعليم بذرة تُزرع في العقول، لكن التعلّم هو الشجرة التي تثمر وتمنح الظلّ والثمر معًا.
وحين نُدرك أن التعلم فعل بناء ذاتي، نرتقي من موقع المتلقّي إلى موقع الفاعل، فنُصبح شركاء في صياغة حياتنا لا مجرد مقلّدين لخطى الآخرين. التعلم يغرس فينا القدرة على الإنتاج لا الاستهلاك، وعلى الابتكار لا التكرار. وكل لحظة يتعلم فيها الإنسان درسًا جديدًا في الأخلاق، أو يكتسب معرفة في العلم، أو يوسّع مداركه في الفن والجمال، هي لحظة يُشيع فيها الخير والأمل، ويزيد من رصيده في خدمة مجتمعه.
التعليم والتعلم في جوهرهما رسالة أمل، لأنّهما يُعيدان للإنسان ثقته بقدرته على التغيير. فالمجتمع الذي يزرع في أفراده حبّ التعلم الدائم هو مجتمع يُؤمن بأن الغد سيكون أفضل من اليوم، وأن الأفق مفتوح أمام كلّ من يُريد أن يُغيّر واقعه. وحين تنتشر هذه الروح، فإنها تُشيع إيجابية تُقابل التحديات بابتسامة، وتحوّل العقبات إلى فرص. بهذا المعنى، يكون التعليم بوابة النور، ويكون التعلّم مسيرة بناء، ويكون الوعي بأنني فاعل لا مفعولًا به أعظم هبة يمكن أن يتسلح بها الإنسان في رحلته نحو المستقبل.
وحين يُنظر إلى التعليم بهذه العين، يتضح أنّه فعلٌ ممتد في كل تفاصيل الحياة. فالأسرة تُعلّم، والطريق يُعلّم، والتجربة اليومية تُعلّم، حتى الألم والفقد يفتحان أبوابًا جديدة للمعرفة. بهذا الاتساع يغدو التعليم روحًا تسري في المجتمع، تُشعل في كل فرد شعلةً من الفضول والرغبة في النمو، وتُحرّضه على طرح الأسئلة لا على الاكتفاء بالأجوبة الجاهزة.
والتعلم، في مساره الأوسع، تربية للذات على الانفتاح والتجدد. كلّما تعلم الإنسان درسًا جديدًا، أضاف لبنة في بنيان شخصيته، وفتح لنفسه نافذة نحو فضاء أرحب من الحرية والإبداع. التعلم بهذا المعنى بناءٌ صبور، يزرع جذورًا عميقة تُثمر مع الزمن ثقة بالنفس وقدرة على مواجهة التحديات.
وحين يجتمع التعليم والتعلم، يتكوّن وعيٌ جديد يجعل من الفرد عنصرًا فاعلًا في مجتمعه. فهو يسعى إلى التأثير الواقع، ويحوّل معرفته إلى فعل إنتاجي يُغني الاقتصاد، ويُثري الثقافة، ويُعزز قيم المواطنة. إنّ المجتمع الذي يعي أفراده قيمة أن يكونوا فاعلين، هو مجتمعٌ محكوم عليه بالنهضة، لأنّ كلّ فرد فيه يصبح بذرة تغيير تحمل الخير وتنشر الأمل.
ومن هنا، تتضح العلاقة الوثيقة بين التعليم، والتعلم، وبناء المستقبل. فالتعليم يفتح الباب، والتعلم يُعمّق الخطى، والوعي بالفاعلية يجعل الرحلة ممتلئة بالمعنى. عند هذه النقطة، يكون المستقبل مشروعًا يُصاغ بأيدٍ مؤمنة بأنّ الخير ممكن، وأنّ الإيجابية خيارٌ للعيش، وأنّ الأمل حين يُترجم إلى عمل، يتحول إلى حقيقة ملموسة تضيء حياة الأفراد والمجتمعات.
ومن ثمّ يغدو التعليم بمفهومه الأصيل أداةً لتحرير الإنسان من القيود، إذ يفتح له أبواب النقد والتفكير المستقل، ويصبح قادرًا على التمييز بين ما يرفعه وما يُثقله. هذا التحرر هو جوهر الإيجابية، لأنّه يجعل الفرد مسؤولًا عن ذاته وعن محيطه، فيختار الخير ويصنع الأمل استنادًا إلى قوة داخلية تُلهمه وتوجّهه.
وهكذا يتكامل البناء: تعليمٌ يفتح المدارك، وتعلّمٌ يغرس البذور، ووعيٌ بالفاعلية يجعل الفرد شريكًا في صناعة التاريخ. وفي هذه الدائرة المضيئة، تتجلى رسالة الحياة بوصفها سعيًا دائمًا نحو ارتقاء الروح والعقل معًا، فتتشكل مجتمعات أكثر رحابةً وإنسانية، وتتحول المعرفة إلى نهر متدفق يُسقي أرض الخير، ويُثمر أملًا يتوارثه الناس جيلًا بعد جيل.

 

You may also like