في ديسمبر الماضي، زعمتُ أن بعض سياسات البيت الأبيض، برغم أنها ستُـفضي إلى الركود التضخمي (خفض النمو وزيادة التضخم)، فإن هذه التأثيرات ستخفف من حدتها في نهاية المطاف 4 عوامل: انضباط السوق، والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي المستقل، ومستشارو الرئيس نفسه، وأغلبية الجمهوريين الضئيلة في الكونجرس.
إضافة إلى حواجز الوقاية الأربعة هذه، هناك أيضا عامل التكنولوجيا. سيقترب نمو الاقتصاد الأمريكي المحتمل من 4% بحلول 2030، وهذا أعلى كثيرا من تقديرات صندوق النقد الدولي الأخيرة (1.8%). والسبب واضح: أمريكا رائدة عالميا في عشر صناعات من أصل 12 صناعة ستحدد ملامح المستقبل، حيث تتصدر الصين فقط في مجال المركبات الكهربائية وغير ذلك من التكنولوجيات الخضراء. بلغ متوسط النمو في الولايات المتحدة 2.8% في الفترة 2023-2024، وبلغ نمو الإنتاجية 1.9% في المتوسط منذ 2019، وإن كان قد تراجع في زمن الجائحة.
إذا ارتفع النمو من 2% إلى 4% بسبب التكنولوجيا، فإن هذا يمثل زيادة بمقدار 200 نقطة أساس للنمو المحتمل. ومع ذلك، فإن حتى تدابير الحماية التجارية الصارمة وقيود الهجرة ستقلل من النمو المحتمل بمقدار 50 نقطة أساس فقط على الأكثر. وهذا يمثل نسبة 4 إلى 1 بين الإيجابيات والسلبيات؛ أي أن التكنولوجيا ستتفوق على التعريفات الجمركية في الأمد المتوسط.
كما يعني ازدهار الاستثمار المدفوع بالذكاء الاصطناعي أن عجز الحساب الجاري الأمريكي، في وجود تعريفات جمركية مرتفعة أو دونها سيظل مرتفعا وعلى مسار تصاعدي (وهذا يظهر الفارق بين ركود المدخرات وازدهار الاستثمار). ولكن بما أن نمو أمريكا الاستثنائي، فإن تدفقات المحافظ الاستثمارية ستستمر على الرغم من ضجيج السياسة التجارية. ورغم أن مستثمري الدخل الثابت ربما ينسحبون من الأصول الأمريكية والدولار، فإن مستثمري الأسهم سيظلون يميلون إلى اكتناز الأصول الأمريكية، وربما حتى مضاعفة الاستثمار. وأي ضعف كبير يطرأ على الدولار سيكون تدريجيا، ولن يخسر الدولار على نحو مفاجئ دوره كعملة احتياطية عالمية.
بمرور الوقت، سيؤدي ارتفاع النمو، مقترنا بسياسات إعادة التوزيع الحالية، إلى إضعاف القوى الشعبوية في الولايات المتحدة. من ناحية أخرى، ستستمر أوروبا في مواجهة الرياح المعاكسة المتمثلة في الشيخوخة الديموغرافية، والاعتماد على مصادر خارجية في مجال الطاقة، والاعتماد المفرط على الأسواق الصينية، وضعف الإبداع المحلي، وركود النمو الذي يحوم حول 1%. وسوف تتسع فجوة الإبداع التي دامت 50 عاما بين أمريكا وأوروبا مع انتقال النمو المدفوع بالذكاء الاصطناعي من اللوغاريتمي إلى الأسي.
في هذا السياق، قد تسيطر الأحزاب الشعبوية اليمينية المتشددة في معظم أنحاء أوروبا، كما حدث بالفعل في بعض البلدان. وفي ظل انجراف الولايات المتحدة الظاهر نحو التحجر وضيق الأفق، قد تبدو أوروبا حاليا وكأنها آخر معقل للديمقراطية الليبرالية في العالم؛ ولكن قد تنقلب هذه الرواية في الأمد المتوسط.
ويصبح هذا الانقلاب أكثر احتمالا إذا استمر الأوروبيون في تجاهل توصيات رئيسي الوزراء الإيطاليين السابقين إنريكو ليتا وماريو دراجي. في تقريره عن القدرة التنافسية الأوروبية العام الماضي، أشار دراجي إلى أن التعريفات الجمركية بين دول الاتحاد الأوروبي على السلع والخدمات أعلى كثيرا من تلك التي هدد بفرضها ترمب. أحد جوانب تَـنَـمُّـر ترمب الإيجابية أنه قد يجبر أوروبا على الاستيقاظ.
من المؤكد أن التضخم في الولايات المتحدة سيرتفع فوق 4% هذا العام. وسوف تحد الصفقات التجارية مع معظم البلدان من معدل التعريفة الجمركية إلى مستوى غير مرغوب ولكن يمكن التحكم فيه بنسبة 10-15%، وستؤدي التهدئة المحتملة مع الصين إلى ترك هذا المعدل عند نحو 60% في المتوسط، فيدفع انفصالا تدريجيا بين الاقتصادين. وسوف تؤدي الصدمة الناتجة عن ذلك في الدخل الحقيقي القابل للإنفاق (المعدل حسب التضخم) إلى توقف النمو بحلول الربع الرابع من هذا العام، وربما يؤدي ذلك إلى ركود ضحل في الولايات المتحدة يستمر لبضعة أرباع.
لكن بنك الاحتياطي الفيدرالي الذي لا يزال ملتزما بجدارة بتثبيت توقعات التضخم سيكون قادرا على خفض أسعار الفائدة بمجرد توقف النمو، وسوف يؤدي الارتفاع المتواضع في معدل البطالة إلى إضعاف التضخم. وبحلول منتصف 2026، سيشهد النمو الأمريكي انتعاشا قويا، لكن ترمب سيكون تضرر سياسيا بالفعل، على نحو ينذر بخسارة حزبه في انتخابات التجديد النصفي. وستنحسر المخاوف من انزلاق الولايات المتحدة إلى الاستبداد. وستنجو الديمقراطية الأمريكية من صدمة ترمب، وبعد فترة أولية من الألم، سيزدهر الاقتصاد الأمريكي.
كبير مستشاري شركة Hudson Bay Capital Management LP وأستاذ فخري في كلية ستيرن لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك