اسواق جو –
في تحرك متزامن يعكس ترابط السياسات النقدية حول العالم، خفّض الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة للمرة الأولى منذ أشهر، لتتوالى بعدها قرارات مماثلة من البنوك المركزية في الخليج والأردن. هذه الموجة الجديدة من التيسير النقدي تشير إلى بداية مرحلة اقتصادية مختلفة، تتصدرها مساعي تحفيز النمو واحتواء تباطؤ الأسواق، بعد فترة طويلة من التشديد النقدي.
الفيدرالي يطلق شرارة الخفض وسط انقسام داخلي
أعلن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، مساء الأربعاء، خفض سعر الفائدة الرئيسي بمقدار 25 نقطة أساس ليصل إلى نطاق بين 3.75% و4%، مبررًا الخطوة بضرورة دعم سوق العمل الأميركي، الذي أظهر مؤخرًا علامات ضعف في التوظيف والنمو.
ورغم أن القرار جاء متوقعًا إلى حد كبير، إلا أن الانقسام داخل المجلس كان لافتًا؛ إذ عارضه عضوان من أصل 12، حيث دعا المحافظ ستيفن ميران إلى خفض أكبر بمقدار نصف نقطة مئوية، في حين اعتبر جيفري شميد من فرع كانساس سيتي أن التضخم ما يزال يمثل خطرًا يستدعي الحذر.
وأكد جيروم باول رئيس الفيدرالي أن “خفض الفائدة في كانون الأول ليس مضمونًا”، مشيرًا إلى أن المجلس سيعتمد في قراراته المقبلة على البيانات الاقتصادية، خاصة في ظل احتمال تأثر النشاط الاقتصادي بالإغلاق الحكومي المؤقت في واشنطن.
كما أعلن الفيدرالي عن إنهاء برنامج التيسير الكمي اعتبارًا من الأول من كانون الأول المقبل، في خطوة تهدف إلى إعادة هيكلة ميزانيته العمومية وضبط مستويات السيولة بعد سنوات من ضخ النقد الكثيف.
الخليج يواكب بخطوات متزامنة
وفي استجابة شبه فورية، أعلنت البنوك المركزية الخليجية خفض أسعار الفائدة الرئيسية بمقدار 25 نقطة أساس، مستندة إلى الارتباط الوثيق بين عملاتها والدولار الأميركي.
فقد خفّض البنك المركزي السعودي سعر اتفاقية إعادة الشراء (الريبو) إلى 4.50% والريبو العكسي إلى 4%، فيما قلّص مصرف الإمارات المركزي سعر الفائدة الأساسي على تسهيلات الإيداع لليلة واحدة إلى 3.90%.
واتخذت قطر والبحرين وسلطنة عُمان قرارات مماثلة، بينما حافظ بنك الكويت المركزي على سعر الفائدة دون تغيير، في إشارة إلى خصوصية السوق المحلية الكويتية وتوازنها النقدي.
ويرى خبراء أن هذه الخطوة ستسهم في تنشيط التمويل العقاري والاستهلاكي، وتعزيز تنافسية بيئة الأعمال، في وقت تسعى فيه اقتصادات الخليج إلى تنويع مصادر النمو بعيدًا عن النفط.
طالع هنا:
الأردن يدخل على خط الخفض لتقوية بيئة الاستثمار
في خطوة تعكس انسجام السياسات النقدية الإقليمية، أعلن البنك المركزي الأردني خفض أسعار الفائدة على أدوات السياسة النقدية بمقدار 25 نقطة أساس، تماشياً مع قرار الفيدرالي الأميركي.
وأوضح المركزي أن القرار يأتي ضمن مساعٍ لدعم النشاط الاقتصادي المحلي وتحفيز الاستثمار والإقراض الإنتاجي، مع الحفاظ على استقرار الدينار الأردني المرتبط بالدولار.
وأكد البنك أن القطاع المصرفي الأردني يتمتع بمستويات سيولة مرتفعة ومتانة رأسمالية قوية، تتيح له التفاعل مع السياسة النقدية العالمية دون التأثير على استقرار الأسعار أو الثقة في العملة المحلية.
ويرى اقتصاديون أن خفض الفائدة سيساعد في خفض كلف الاقتراض للأفراد والشركات، ما سيعزز من نشاط الائتمان والإنفاق الاستثماري، خاصة في القطاعات الإنتاجية والخدمية.
💬 د. مروان العكايلة – خبير اقتصادي أردني:
“يأتي خفض أسعار الفائدة في توقيت حساس للاقتصادين المحلي والعالمي، إذ تسعى البنوك المركزية إلى تحقيق توازن دقيق بين تحفيز النمو وضبط التضخم. بالنسبة للأردن، فإن القرار سيسهم في تنشيط الاستثمار والائتمان، دون الإضرار باستقرار الدينار أو الثقة بالقطاع المالي.”
هل تعود دورة التيسير النقدي العالمية؟
يعتبر مراقبون أن هذه التطورات قد تكون بداية دورة تيسير نقدي عالمية، بعد ثلاث سنوات من التشديد بهدف السيطرة على التضخم.
فمع تباطؤ النمو في الاقتصادات المتقدمة وارتفاع معدلات البطالة، يبدو أن البنوك المركزية باتت تميل أكثر نحو سياسات دعم النمو وتحفيز الطلب.
لكن في المقابل، يرى خبراء أن أي تساهل مفرط في خفض الفائدة قد يعيد إشعال الضغوط التضخمية، ويؤدي إلى اختلالات في الأسواق المالية. لذلك، من المتوقع أن تتبنى البنوك المركزية نهجًا “حذرًا ومشروطًا بالبيانات” خلال المرحلة المقبلة.
💬 إلين شوارتز – كبيرة الاقتصاديين في مجموعة “غلوبال فاينانس”:
“التحول نحو سياسة نقدية أكثر مرونة يعكس إدراكًا متزايدًا لدى صناع القرار في العالم بأن مخاطر التباطؤ الاقتصادي تفوق في الوقت الحالي مخاطر التضخم. ومع ذلك، تبقى الأسواق في حالة ترقب دائم لأي إشارة من الاحتياطي الفيدرالي بشأن الخطوة المقبلة.”
انعكاسات الأسواق: الذهب يلمع والدولار يتراجع والأسهم تترقب
انعكس قرار خفض الفائدة مباشرة على الأسواق المالية العالمية، حيث شهدت أسعار الذهب ارتفاعًا واضحًا مدفوعة بتراجع الدولار وتوقعات استمرار التيسير النقدي، ما عزز من جاذبية المعدن النفيس كملاذ آمن.
في المقابل، تراجع الدولار الأميركي أمام سلة من العملات الرئيسية، مع تضاؤل الفارق في أسعار الفائدة بين الولايات المتحدة وبقية الاقتصادات الكبرى، ما منح اليورو والين والجنيه الإسترليني دفعة قوية.
أما أسواق الأسهم، فقد تفاعلت بإيجابية محدودة؛ إذ رحب المستثمرون بتحسن السيولة وتراجع كلفة التمويل، لكن الحذر ما زال يسيطر على التداولات بسبب مخاوف من احتمال عودة التضخم.
وفي المنطقة العربية، من المتوقع أن يسهم خفض الفائدة في تنشيط أسواق الأسهم الخليجية والأردنية عبر زيادة الاستثمارات المؤسسية وتحسين شهية المخاطر.
وتُظهر موجة خفض الفائدة الأخيرة أن الاقتصاد العالمي يدخل مرحلة جديدة من إعادة التوازن النقدي بعد سنوات من التشديد.
وبينما تسعى البنوك المركزية إلى دعم النمو وتحفيز الاستثمار، فإن التأثيرات الممتدة لقراراتها ستتضح بشكل أكبر خلال النصف الأول من عام 2026، خصوصًا على أسواق الأسهم والذهب والعملات.
فالذهب مرشح لمواصلة الصعود مع تراجع العوائد الحقيقية، في حين سيبقى الدولار تحت ضغط نسبي، ما يمنح العملات الأخرى متنفسًا مؤقتًا.
أما أسواق الأسهم، فستكون الرابح الأكبر على المدى المتوسط، مع توقعات بزيادة السيولة وتحسن شهية المستثمرين، لتتحول المرحلة المقبلة إلى سباق بين النمو والتضخم في عالم يعيد صياغة قواعد سياسته النقدية.
