Home مقالاتكيف يصنع الاقتصاد الثروة؟

كيف يصنع الاقتصاد الثروة؟

أ. د. أمجد الفاهوم

by sadmin

اسواق جو – لا تُقاس قوة الدول بما تحتفظ به من أموال في خزائنها، بل بقدرتها على تحويل مواردها وإمكاناتها إلى منظومة إنتاجية تولّد قيمة جديدة وتدفع عجلة النمو. فالثروة ليست قيمة جامدة في دفاتر المالية، بل حركة متواصلة تعيد تشكيل السوق، وتوسع قاعدة الدخل، وتفتح أبواب العمل، وتبني اقتصاداً أكثر مرونة وقدرة على الابتكار. ومن هذا الفهم تنطلق الفكرة الأساسية بأن الثروة لا تُدار، بل تُصنع.

تبدأ عملية صناعة الثروة من الفلسفة الاقتصادية ذاتها؛ من الطريقة التي تنظر بها الدولة إلى التعليم والعمل، وإلى العلاقة بين الابتكار والإنتاج، وإلى كيفية تحويل الطاقات البشرية إلى منتجات وخدمات يمكنها المنافسة. فاقتصاد يكتفي بإدارة الأرقام يبقى أسيراً للجمود، مهما كان الانضباط المالي متحققاً. بينما الاقتصاد الذي يربط الأفكار بالفرص، والمهارات بالقطاعات، والبحث العلمي بالتصنيع، يصبح أكثر قدرة على تحويل الجهود الفردية إلى قيمة وطنية.

وتتشكل الثروة عندما ينتقل الاقتصاد من الاعتماد على الرسوم والضرائب إلى بناء مشاريع حقيقية تعمل على خلق القيمة المضافة. فحين تتوسع الصناعات، وتدخل التكنولوجيا إلى خطوط الإنتاج، وتنمو الشركات الناشئة، ويتطور القطاع الزراعي بوسائل حديثة، يصبح الدخل ناتجاً من العمل والإبداع لا من الضرائب. وهكذا نجحت كوريا الجنوبية حين حولت نفسها إلى قوة صناعية متقدمة، ونجحت سنغافورة حين جعلت من شحّ الموارد فرصة لنهضة معرفية واقتصادية مستدامة.

ويبرز هنا دور الدورة الاقتصادية الكاملة، التي تقوم على ترابط الإنتاج والتشغيل والاستهلاك وإعادة الاستثمار. فلا يولد اقتصاد قوي من حلقة معزولة، بل من منظومة واسعة تتفاعل فيها الشركات مع العمالة، والأسواق مع المستهلكين، والاستثمار مع الطلب. وكلما ازدادت هذه الدورة اتساعاً وحيوية، ازداد الناتج المحلي قدرة على النمو والتجدد.

ويظل رأس المال البشري محوراً أساسياً في بناء الثروة. فالدول التي نهضت لم تعتمد على موارد طبيعية فقط، بل على مهارات البشر وقدرتهم على التفكير الخلاق والعمل المتقن والتكيّف مع التحولات السريعة. التعليم المتطور، وبرامج التدريب، والتكنولوجيا المتقدمة ليست تفاصيل جانبية، بل هي قلب العملية الإنتاجية وروح التنافسية في الاقتصاد المعاصر.

ولا يمكن لهذه العناصر أن تؤتي ثمارها دون سياسات اقتصادية تحفّز الإنتاج وتدعم الابتكار. فالاقتصاد يحتاج إلى تشريعات مرنة، وضرائب عادلة، وحوافز للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتمويل ميسر بعيد عن البيروقراطية. وعندما تُدار السياسات بروح إنتاجية لا انكماشية، يصبح القطاع الخاص شريكاً أساسياً في النمو لا طرفاً مقيداً بالقيود.

وتكتمل الصورة عندما يتحول الاقتصاد إلى اقتصاد مبادرة، يعتمد على رؤية واضحة للقطاعات الواعدة ويعمل على تمكينها ودمجها بالتجارة الخارجية، ويفتح أسواقاً جديدة، ويستثمر الموقع الجغرافي، ويحوّل التكنولوجيا إلى رافعة للصناعة والزراعة والخدمات. فالثروة تُصنع حين تنتقل الدولة من ردّ الفعل إلى الفعل، ومن الانتظار إلى المبادرة.

واستنادا إلى تلك المعطيات نرى بأن الأردن يمتلك كل المقومات التي تسمح له بالانتقال إلى اقتصاد توليد القيمة، بفضل موارده البشرية المتعلمة، وقطاعه التكنولوجي المتنامي، وموقعه اللوجستي، وقدرته على بناء شراكات نوعية. وما نحتاجه اليوم هو إعادة صياغة الفلسفة الاقتصادية باتجاه تحريك السوق وصناعة القيمة، ليصبح النمو نتيجة طبيعية لاقتصاد منتج، لا مطلباً صعباً في ظل اقتصاد ساكن.

 

الدستور

You may also like