اسواق جو – كافة المجالس العلمية والتعليمية تتحدث عن التسارع المذهل في الذكاء الاصطناعي، ليُصاب البعض بحالة من الانهيار في كثير من الأحيان، وحالة من التهويل عندما نشاهد الابتكارات المتنوعة المنزلية والاجتماعية والثقافية والعسكرية وغيرها. فيتخيّل للبعض أن هذه التقنية الجديدة ليست سوى عبارة عن كائن فائق الوعي والإدراك، قادر على التفكير المستقل.
وهذا التصور، مهما أخذ أبعاده التقنية والخدماتية والعلمية، إلا أنه يُخفي خلفه أخطاءً جوهرية، فالذكاء الاصطناعي ليس عقلاً يُولَد من العدم، ولا هو كينونة واعية تُقرّر وتبتكر من تلقاء نفسها، إنه بكل بساطة ليس سوى أرشيف ضخم لفكرة خرجت من الذكاء البشري، ثم جرى تنظيمها وتدويرها وتطويرها وتحسينها ضمن منظومات خوارزمية، كأنها صورة من صور الإنسان لا أكثر، لكنها لا تعي أنها تفعل ما تفعله، بل هي مبرمجة لفعل ما وُضِع لها، وتحليل هذا العقل للتعامل معه وفق أنظمة مبرمجة لكل حالة من الحالات المبرمجة عليها.
وكلنا يعلم أن الآلة لا تفكر كما يفكر الإنسان ليتعامل مع الحدث أو الأزمة أو الغاية المراد تحقيقها، فهي تُنفِّذ ولا تشعر، بل تُعالج البيانات، وكذلك هي لا تسأل «لماذا»، بل تتابع ما تمّت برمجتها عليه. فكل ما تملكه من قدرة على التحليل أو المحاكاة هو مستمدٌّ من مدخلات الإنسان ذاته: أساليبه، لغته، معرفته، وهنا تكمن المفارقة، فالذكاء الاصطناعي ليس ذكاءً بالمعنى الإنساني، بل هو محاكاة منظَّمة وفعّالة لأساليب التفكير، ونحن من زرع الفكرة فيه، فكل ما ينتج عنه لا يعدو أن يكون صدى لما أنتجناه نحن، لا شيئاً جديداً من خارجنا.
الخطر لا يكمن في الآلة نفسها (ذاتها)، بل في أن يغفل الإنسان عن دوره ويظن أن بوسعه أن يُفوِّض الآلة لكل ما يتطلّب حِسّاً بشرياً: الفهم، والحُكم، والإبداع، وغيرها، وهنا يصبح الذكاء الاصطناعي تهديداً، لأنّه في كثير من الأحيان يتجاوز برمجة الإنسان، لذلك يجب أن يتم وضعه في موضعه الحقيقي كأداة تخدم وتعمل وتحلّل، لكنها لا تملك ذاتها، لتكون امتداداً لفكرنا لا بديلاً عنه.
الآلة لا تعرف أنها آلة، فإعطاء المعلومات الخاطئة والمضللة يُفقد الآلة وظيفتها التي صُمِّمت من أجلها، واستخدام الذكاء الاصطناعي في الأسلحة المستقلة من الممكن أن ينعكس سلبياً على من يُفعّلها في لحظةٍ ما ولسببٍ ما، وحين يتم تزيين المحتوى، فقد تُشكِّل مخاطر على السلامة، بينما تتضمن المخاطر بعيدة الأمد سيناريوهات مثل آلات فائقة الذكاء بحيث لا يمكن السيطرة عليها أو غرسها بقيمٍ متوافقة مع الإنسان، أو أنها تحاول الحفاظ على نفسها من أي تدخل بشري خارجي، خاصة إذا تمّت برمجتها على الذكاء الخارق في جميع المجالات.
وماذا إن تحدّثت مع بعضها البعض لصقل ذكائها وتولّت زمام الأمور، فهناك آلات فائقة الذكاء تعرف أنها آلة، يمكنها تجاوز جميع الأنشطة الفكرية لأي رجل مهما كان ذكياً، وها نحن نشهد آلات فائقة الذكاء تُصمِّم آلاتٍ أفضل بعيداً عن ذكاء الإنسان. فهل نضع آلاتٍ سهلة الانقياد وتحت السيطرة، أم أنها ستتجاوز ذلك لتشكِّل مخاوف كبيرة وحقيقية على الإنسان والمجتمع والطبيعة .
الدستور
