Home اقتصادهل تصبح عمان مركز المدفوعات الفورية في الشرق الأوسط؟

هل تصبح عمان مركز المدفوعات الفورية في الشرق الأوسط؟

by sadmin

أسواق جو

د. حمزه العكاليك
عمان- في الهند، أحدث نظام الدفع الفوري UPI ثورة غير مسبوقة، إذ تمكن خلال أقل من خمس سنوات من دمج أكثر من 300 مليون مستخدم في المنظومة المالية الرسمية، وجعل من الهواتف الذكية بديلاً فعلياً للنقد. وفي البرازيل، نجح نظام Pix في تغيير سلوك المجتمع المالي بالكامل، حيث بات ملايين المواطنين والتجار يعتمدونه في حياتهم اليومية، لتصبح المدفوعات الفورية قصة نجاح وطنية. واليوم، يسير الأردن على الطريق ذاته عبر نظام كليك بلص، الذي يقوده البنك المركزي الأردني كجزء من رؤية استراتيجية جريئة تهدف إلى دفع القطاع المالي نحو المستقبل، وتثبيت مكانة المملكة كلاعب إقليمي في عالم المدفوعات الرقمية.

فالنظام المالي الأردني يُعتبر واحداً من أكثر الأنظمة إحكاماً في الرقابة، وقد أثبت كفاءته حين تمكنت المملكة من الخروج من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) بفضل التزامها الصارم بقانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. لم يكن ذلك إنجازاً شكلياً، بل نقطة تحول عززت سمعة الأردن في الأسواق المالية الدولية. واليوم، يواصل البنك المركزي هذه المسيرة بجرأة، واضعاً نصب عينيه هدفاً مزدوجاً مواكبة الثورة الرقمية العالمية وحماية سلامة النظام المالي المحلي.
فلقد نجح كليك محلياً في إعادة صياغة مفهوم التحويلات المالية، فقد أصبح الأفراد والشركات قادرين على تنفيذ معاملاتهم لحظياً، دون الحاجة لانتظار أيام كما كان يحدث سابقاً. غير أن البنك المركزي لا ينظر إلى كليك كخدمة دفع فحسب، بل كخطوة استراتيجية نحو ربط الأردن بالأنظمة المالية الدولية، بما يعزز مكانة المملكة في الاقتصاد الرقمي العالمي.
فقرار إطلاق وربط كليك بلص بالأنظمة العالمية لم يكن قراراً تقنياً فقط، بل جزءاً من رؤية التحديث الاقتصادي الشاملة. هذه الرؤية تهدف إلى تبسيط الإجراءات المالية وتخفيض الاعتماد على النقد بما يعزز الكفاءة الاقتصادية، وتحقيق الشمول المالي عبر إدخال شرائح واسعة من المجتمع وخاصة العمالة الوافدة إلى النظام المصرفي الرسمي، إضافة إلى الالتزام بالمعايير العالمية للمدفوعات بما يرفع ثقة المستثمرين والمؤسسات الدولية في بيئة المملكة.
ومع ذلك، فإن الطريق نحو الرقمنة الكاملة في الأردن يتميز بوعي استباقي من البنك المركزي، الذي اختار أن يمنح الأولوية لشركات الصرافة في المرحلة الأولى من تطبيق نظام كلي، إدراكاً لأهمية هذا القطاع في منظومة التحويلات المالية المحلية والدولية. هذه الخطوة الاستراتيجية لا تضمن فقط حماية مصالح آلاف العاملين في الصرافة، بل تعكس حرص البنك على تخفيف الأثر الاقتصادي والاجتماعي المحتمل، ومنع انتقال المتعاملين إلى السوق السوداء فيما يخص الحوالات وتصريف العملات.
وفي الوقت ذاته، يملك البنك المركزي الأردني خبرة راسخة وإطاراً رقابياً يعد من أعلى المعايير العالمية في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. فالمملكة طبقت بشكل صارم مبادئ اعرف عميلك (KYC) والعناية الواجبة (CDD)، ما يمنح البنك القدرة الكاملة على تتبع المستفيد الحقيقي (Beneficial Owner) وضمان الشفافية في كل المعاملات. هذا الالتزام عزز ثقة المؤسسات الدولية، وهو ما ظهر جلياً في حفاظ وكالة ستاندرد آند بورز على التصنيف الائتماني للأردن عند مستوى BB-/B مع نظرة مستقبلية مستقرة، في إشارة واضحة إلى قدرة المملكة على إدارة التحول المالي الرقمي دون الإضرار باستقرارها النقدي أو سمعتها الدولية.
فهذا التوجه الإيجابي للبنك المركزي يبقى أقوى من هذه المخاوف التي تشغل بال بعض المتعالمين في هذا القطاع. فالعالم يتجه بسرعة نحو الرقمنة، وتأخر الأردن في اللحاق بهذا الركب كان سيكلفه الكثير على صعيد التنافسية وجذب الاستثمارات. فالتجارب الدولية تقدم أمثلة عملية واضحة، فالهند حولت اقتصادها عبر UPI، والبرازيل نجحت في مضاعفة كفاءة مدفوعاتها عبر Pix، وبالمنطق ذاته يمكن أن يصبح كليك قصة نجاح إذا ما أُحسن استثماره وتوظيفه.
إضافة إلى ذلك، يمثل كليك بلص فرصة استراتيجية للأردنيين المغتربين الذين يحولون سنوياً ما يقارب مئات الملايين إلى وطنهم. فالنظام الجديد سيوفر لهم قنوات أسرع وأرخص وأكثر أماناً لإرسال أموالهم إلى عائلاتهم، بعيداً عن التعقيدات السابقة والتكاليف العالية. هذه التحويلات، التي تُعد ركيزة أساسية لدعم الاقتصاد الوطني، ستصبح أكثر سلاسة وفاعلية، ما يرسخ دور المغتربين كشريان مالي رئيسي للاقتصاد الأردني ويزيد من ثقتهم في التعامل عبر القنوات الرسمية.
الخطوة الحاسمة اليوم تكمن في دمج كافة الفاعلين في المنظومة المالية الوطنية. فالمطلوب ليس فقط تعزيز خدمات كليك، بل بناء منظومة متكاملة تشمل البنوك وشركات الصرافة ومزودي الخدمات المالية غير التقليدية، بما يضمن عدالة المنافسة ويحول التحديات إلى فرص. عندها لن يُنظر إلى كليك كتهديد، بل كبوابة لاقتصاد أكثر قوة وعدالة ومرونة.
إن قرار البنك المركزي الأردني بإطلاق وربط كليك بلص بالأنظمة الدولية ليس مجرد خطوة تقنية، بل يمثل رؤية استراتيجية لمستقبل الاقتصاد المالي في المملكة. وعلى الرغم من وجود تحديات—قانونية وتنظيمية واجتماعية—إلا أن البنك المركزي يتقدم بثقة نحو تحقيق موقع قيادي في مجال التمويل الرقمي. فاليوم، فلم يعد السؤال هو ما إذا كان الأردن سيلحق بالركب العالمي، بل كيف سيقود التحول المالي في المنطقة؟ فالإجابة تكمن في قدرة البنك المركزي، على تحقيق التوازن بين الابتكار والحفاظ على الاستقرار المالي، ليكتب بذلك فصلاً جديداً في قصة الاقتصاد الأردني.

صحيفة الغد الأردنية

You may also like